مقالات في اللسانيات

بين الوسيط والعربي الأساسي، مقارنة ونقد

د. عبدالعزيز بن عبدالله المهيوبي

مما لا شك فيه أن تراثنا العربي غنيٌّ جداً بأنواع المعجمات اللغوية على نحوٍ لا نجده في تراث لغة أمة أخرى، وأن الصناعة المعجمية، في حضارتنا العربية العظيمة كانت أكثر نضجاً مما في تاريخ اللغات الأخرى. ومنذ الانطلاقة الأولى للصناعة المعجمية، التي بدأت في القرنين الأوَّلين للهجرة على يد الخليل بن أحمد، بل وقبل ذلك حين بدأ اللغويون العرب بجمع مفردات العربية وتدوينها ثم إخراجها في شكل مُدوَّنات معجمية، أقول منذ تلك الانطلاقة لم تتوقف عمليةُ إنتاج المعجمات بشتى أحجامها وأصنافها ومناهجها، توقفاً نهائياً، وإن عرفت بعض الفتور الطبيعي خلال عصور معينة. ومع بداية النهضة الحديثة بدأت حركة جديدة لسد النقص وتدارك ما فاتَ خلال مرحلة التوقف والفتور. فظهرت معجمات لغوية كثيرة، حاول أصحابُها قدر استطاعتهم، تلافي عيوب المنهج في المعجمات القديمة، وتطعيم المادة المعجمية بألفاظ حضارية جديدة فرضتها ظروف المرحلة.

والمعجم الحديث للغة العربية معجم حيّ متجدّد ومتطور، يسعى إلى مواكبة التقدّم الذي عرفه المجتمع العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك على الرغم مما تتعرض له اللغة العربية من مزاحمة العاميات واللهجات، وهيمنة اللغات الأجنبية.

ويفترض في المعجم العربي الحديث أن يعكس تطور اللغة العربية وتجددها، وأن يكون مرآة تعكس نهضتها، ومواكبتها للحضارة المعاصرة في مختلف الميادين وفي كل أرجاء الوطن العربي الكبير. ويفترض أيضا في المعجم اللغوي أن تتصف مادته اللغوية بالغزارة والشمول والدقة والصدق والتجدد ومواكبة الحضارة، وحُسن العرض والترتيب فيكون تطورا حقيقيا للصناعة المعجمية العربية.

وقد حرص أصحاب المعاجمات منذ بداية الصناعة المعجمية على أن يقدموا بين يدي معجماتهم تصديرا أو مقدمة، وقد فعل هذا أصحاب المعجمات العربية منذ معجم العين للخليل بن أحمد، وحتى يومنا هذا. وسأحاول في موضوعي هذا اختبار مدى التزام أصحاب المعجمات العربية الحديثة بما اشتملت عليه مقدمات معجماتهم، وذلك انطلاقا من فحص معجمين لغويين عربيين حديثين متداولين صدرا خلال العقود الستة الأخيرة، ويمكن اعتبارهما محطتين أساسيتين في تطور هذه الصناعة بالعصر الحديث، نظراً لقيمتهما وإضافتهما العلمية وشهرتهما وكثرة تداولهما، وهما:

1- “المعجم الوسيط” الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، سنة 1960 م

2- “المعجم العربي الأساسيالصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، سنة 1989 م

يُعدّ ” المعجم الوسيط” أول معجم حقَّق قفزة نوعية من حيث التقنية المستَخدمة في صناعته وإخراجه، ومن حيث المادة المعجمية ونوعيتها، وباعتباره أول معجم في تاريخ العربية اهتمت بصناعته هيئةٌ علمية، خلاف المعجمات السابقة التي قامت بجهود فردية مما عرَّضها لكثير من الأخطاء والهفوات. فلقد صدر هذا المعجم عن المجمع اللغوي في القاهرة، وأشرف على تأليفه فريق من الأساتذة المقتدرين منهم: ( إبراهيم أنيس ، عبد الحليم منتصر، ، عطيه الصوالحي، إبراهيم مدكور، شوقي ضيف، وآخرون). وبالإضافة إلى ذلك كانت له مزايا أخرى عديدة، أهمها:

1- وضع للمعجم ضوابط صارمة ومنطقية لترتيب المداخل مع بعض التجاوزات التي سنشير إليها.

2- إضافة عدد لا بأس به من الألفاظ الحديثة ( المولّدَة والمعرَّبة(  التي أقرتها المجامع اللغوية.

3- الاستغناء عن عدد من الألفاظ غير المستخدمة.

4- استعمال الصور التوضيحية.

ولكن مادته المعجمية، المقدرة بحوالي ثلاثين ألف كلمة، ظلت متواضعة مقارنةً مع النمو السريع الذي تشهده لغتنا العربية، والحاجة المتزايدة كلَّ يوم لألفاظ يُعبَّر بها عن الجديد في كل المجالات.

أمّا “المعجم العربي الأساسي” فيقع في ( 1347 ) صفحة منها ( 60 ) صفحة تضمنت المقدمة، والتعريف باللغة العربية، وطرائق تنميتها، والنظام الصرفي للغة العربية وبعض الأبواب النحوية، والقواعد الإملائية وعلامات الترقيم، ثم منهجية المعجم من حيث ترتيبه واستخدامه ورموزه …إلخ

 

وقد كان من أهم مزايا “المعجم العربي الأساسي” أنه أضاف كثيرا من الألفاظ والاستعمالات الحديثة ولغة الصحافة والإعلام، تلك اللغة التي أغفلها معجم مجمع اللغة العربية” المعجم الوسيط” كما أولى “المعجم العربي الأساسي” أهمية كبيرة للتراكيب والتعبيرات السياقية، وخصص جزءاً كبيراً من مداخله للمشتقات. كما يُعدّ هذا المعجم ثاني معجم أُحاديِّ اللغة – بعد المعجم الوسيط – تُشرف على صناعته هيئةٌ علمية، فقد تولت إصداره المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي اختارت لإنجازه جماعةً من العلماء. وهذا في حد ذاته مكسب للمعجمية العربية، لأن الجهد الجماعي أصبح اليوم أمراً لا غنى عنه في الصناعة المعجمية التي تتطلب الكثير من الدقة والتقانة العالية فضلاً عن المعرفة اللغوية الواسعة.

إلا أن الهدف من تأليف ” المعجم العربي الأساسي” وهو الرغبة في إنتاج معجم موجَّه للناطقين بغير العربية وكذلك الراغبين في تعلمها، وليس للعارفين بهذه اللغة، أوجب أن تقتصر مدوَّنتُه على قدر معيَّن من المداخل، حيث لم يتجاوز عددُها عشرين ألف مدخل، بما فيها أسماء الأعلام البشرية والجغرافية العربية والأجنبية وبما فيها أيضا المشتقات والمكرَّرات. وبعبارة أخرى، تمَّ الاقتصار على الألفاظ الأساسية والوظيفية في اللغة العربية الحديثة. ولذلك أهملوا كثيراً من الألفاظ والاستعمالات التي أصبحت في رأي مؤلفيه القديمة، وكثيراً من معاني الألفاظ التي يُعتقَد أن هذا النوع من مستعملي المعجم لا يحتاجون إليها، وكثيراً من أنواع المصادر والجموع واقتصروا على المشهور المتداول.

نقد منهجية المعجمين:

رغم أهمية ما حققه هذان المعجمان من إضافات، وما أسهما به من تطوير وتحديث للمعجمية العربية الحديثة، أصبحا اليوم – في ظل ما تعرفه اللغة العربية حالياً من نمو وتوسع كبيرين من جهة، وفي ضوء مُستَجدّات التقانة الحديثة للمعجمية من جهة أخرى – معجمين غير مُواكبين لهذه المرحلة، من ناحيتين اثنتين على الأقل:

1- المادة المعجمية

2- التقنية المستعملة في الصناعة.

ونقصد بالمادة المعجمية، أن هذين المعجمين لم يجريا على العادة المعمول بها في المؤسسات المعجمية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بإصدار الطَّبَعة تلوَ الأخرى، تحديثا لمادتهما ومحتواهما بشكل دائم ومستمر، ولمواكبة التطور اللغوي بالزيادة والنقص والتصحيح والتهذيب والمراجعة. وإنْ كنا لا ننكر صدور طبعات من هذين المعجمين ولكن على فترات متباعدة ولكن دون جديد يُذكر. هذا على الرغم مما عرفته العربية من نمو وتطور سريعين في العقود الأخيرة التي شهد خلالها العالمُ كلُّه تحولات كبيرة على كل المستويات، وخاصة في الصناعات والاختراعات ووسائط الاتصال والتقنيات ، وظهور عصر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ( تويتر وفيسبوك ويوتيوب وغيرها ) والعَولَمة، وما صاحبهما من أدوات وآليات. فهل قدم هذين المعجمين الحديثين مادة معجمية تتجاوب مع هذا التحول العظيم الحاصل في كل مجالات حياتنا العصرية ؟ وهل واكبا بشكل مستمر كلَّ ما يستجد من ألفاظ حضارية واصطلاحات علمية وعبارات وتراكيب جديدة، وكل ما ترمي به لغةُ الصحافة ووسائل الإعلام، من تعبيرات وتراكيب تحتل مساحة واسعة في لغتنا اليومية ؟ وهل وضعت ما يٌقابل أسماء المُستَجدّات في عالم الآلات والأدوات والسِّلع والمخترعات والمِهَن الجديدة، لتلبية حاجة مستخدمي هذه المعجمات ؟ وأخيراً، هل استطاعت هذه المعجمات أن تُقنعنا أن لغتنا العربية لغةٌ قادرة على مواكبة هذا التطور السريع الحاصل في كل المجالات ، وتنفي عنها التهمة العقم والتخلف، وأنها غير مؤهَّلة لتصبح لغةَ العلم والتقنيات الحديثة، ولغةَ الصناعة والاقتصاد والإدارة، وغيرها من نواحي الحياة ؟ ونورد هنا عددا من الأمثلة ضمن الأمور الكثيرة التي يمكننا استدراكها من خلال قراءة سريعة لعدد من مداخل  “المعجم الوسيط” فممّا يُستدرَك عليه في مجال المعلوماتية والاتصال – نظرا لاهتمامي بهذا المجال المتجدد- الألفاظ والتراكيب الآتية:

شبكة الاتصال القُرص القابل للإزالة البريد الإلكتروني المعلوماتية الحاسوب أو الكمبيوتر
برامج الحاسوب بَرمجة تحليل النُّظم بَرمَجِيات القُرص المَحلّي

تلك كانت مجرد أمثلة قليلة، تبيِّن إلى أي مدى أصبحت مادة المعجم الوسيط اللغوية، والذي هو أوثق وأصحُّ معجماتنا الحديثة، مادةً فقيرة.

أما لو نظرنا شرح المداخل ومعاني المواد الموجودة في هذين المعجمين، لوجدنا أيضاً أن قدراً كبيراً منها قد أصبح مُتجاوَزاً ومُستغرَباً بل ومُضحِكاً أحياناً. أليس من الجمود أيضاً أن نقرأ اليوم في “المعجم العربي الأساسي” أن أذربيجان هي «إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي». فمن المفروض في المعجمات الحديثة أن تقوم بشكل منتظِم ومستمر بمراجعة المعلومات والمعطيات وتحديثها وإضافة كل جديد إليها.

ومن الأمور التي اعتبرناها عيوباً غير مقبولة، أن المعجم الوسيط أنه غضُّ الطرف عن عدد كبير من مشتقات الفعل، ولاسيما القياسية منها، كالمصادر وأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات، اعتماداً على القاعدة التي سارت عليها المعجمات القديمة، وهي الاستغناء عن المشتقات القياسية، تفادياً لتضخيم حجم المعجم، وعلى افتراض أن القارئ لا بد أن تكون له معرفة متينة بقواعد النحو والتصريف والاشتقاق، وبالآلية الخاصة بتوليد المشتقات، قبل أن يقرر البحث عن كلمة في المعجم الذي بين يديه. وأرى أن هذا الافتراض لا يحظى اليوم بالقَبول التام حيث لا ينبغي أن نفترض في القارئ المتعلِّم أن يكون عارفاً بكل القواعد النحوية والصرفية والاشتقاقية معرفةَ متقَنة حتى يتمكن من الاستفادة من المعجم الذي بين يديه، اللهم  إلا إذا كان هذا المعجم موجَّهاً إلى المثقفين.  أما التخوف من  تضخيم حجم المعجم، عند إيراد كل المشتقات، فهو – برأيي –  أهون من عدم ذكرها. ولعل من حسن الحظ أن واضعي “المعجم العربي الأساسي“، قد تنبّهوا لذلك، وحاولوا تدارك هذا القصور، فأعطوا عددا من المشتقات استقلاليتَها لاسيما المصادر، وجعلوا لكل منها مدخلاً مستقلاً.

أما من جهة التقنية المستخدمة في صناعة المعجم أو لنقل تقنيات تقديم المادة اللغوية، فمنها ما يتصل بكيفية صياغة التعريفات، وما ينبغي أن تتضمَّنه من معلومات. حيث إنَّ المعلومات التي أصبحت في المعجمية الحديثة ضروريةً جدا في كل تعريف، ومنها قبل كل شيء: التأريخ[1] للمدخل، وتوضيح طريقة نُطقه وكتابته، وذكر جِنسه، وعدَده، وما يتعلق به من معلومات نحوية وصرفية. قبل ذكر كافة معانيه ودلالاته المعجمية مرتَّبة بطريقة دقيقة، مع مراعاة الأقدم قبل الحديث، والحقيقي قبل المجازي … إلى غير ذلك من التفاصيل المعروفة في الكتب المخصصة لهذا الموضوع.

أما ردُّ الكلمة إلى جِذرها الذي اشتقت منه أو اللغة الأصلية التي استُعيرت منها إن كانت دخيلة أو مُعرَّبة، وما طرأ عليها من تحولات صوتية وصرفية ودلالية، فهو أمر في غاية الأهمية أيضاً. وقد تخلَّت معاجمنا العربية الحديثة عن هذه المهمة نهائياً. ويبدو أن العذر عند “المعجم الوسيط” و “العربي الأساسي” أنهما موضوعان أصلاً للطُّلاب ومتعلِّمي العربية من غير الناطقين بها. أما “المعجم الوسيط” ، فرغم متابعته طريقَ الأقدمين في التنصيص على أصل الكلمة، إذا كان أعجمياً أو معرَّبا أو مولّداً أو محدَثاً، إلا أنه لم يفعل ذلك في كل مداخله. فبقيت هنالك طائفة كبيرة من المداخل لا يَعرف القارئ ما إذا كانت عربية الأصل أم لا، وإذا عرف أنها غير عربية، لا يعرف أصلَها واللغة التي استُعيرت منها. فعشرات الكلمات اكتفى المعجم بالقول عنها إنها من وضع المجمع، هذا فضلاً عن اكتفائه بوصف بعض الكلمات بالدخيلة أو المعرَّبة أو المولَّدة، وهذا الوصف هو ما جرى عليه الأقدمون وقلَّده “المعجم الوسيط“.

أما ضبط تهجئة المداخل، فقد سلَكت المعجمات الغربية الحديثة أسلوب كتابة المدخل كتابةً صوتية، ولاسيما أن كثيراً من الكلمات في اللغات الأوروبية يختلف نُطقُها عن رسمُها الإملائي، ولكن معجماتنا العربية الحديثة استغنَت عن ذلك بضبط المداخِل بالشكل التام في أغلب الأحيان. وإذا كنا لا نمانِع في الاقتصار على استعمال الشَّكل في المعجمات الموجَّهة للطبقة العليا والمتوسِّطة من مستخدمي المعجم، ولكننا مع استعمال الكتابة الصوتية في المعجمات الموجَّهة لمتعلمي العربية من غير الناطقين بها.

ومن أخطر ما في”المعجم الوسيط” أنه لا يميِّز في الكتابة بين الياء والألف المقصورة ( ي،ى ) في كل الكلمات التي آخرها ياء أو ألف القصر. ومن مشكلاته إغفالُ كثير من حروف المداخل دون شكل، مما يُعرِّضها لاحتمالات القراءة المتعدِّدة الأوجه، وكثيراً ما يقع ذلك في لغة الشرح، فيجعل القارئ في حيرة من أمره. وهذا الأمر لم يسلم من  كذلك “المعجم العربي الأساسي” الذي أتى بمداخل عدة عارية عن الشكل تماماً، والأمثلة في الكتابين كثيرة.

أما الجِنس والعدد، فمن الضروري الإشارة إلى تذكيرها وتأنيثها وإفرادها وتثنيتها وجمعها. والمفروض أن تُقدَّم هذه المعلومات لكل مدخل بدون استثناء، برموز معينة، كما جرى به العُرف في المعجمات الغربية. ولا يُعَوَّل في ذلك على اعتقاد صانع المعجم. فما هو معروف عنده قد يكون مجهولاً عند غيره. ولاسيما في المعجمات المُعَدَّة للطلاب ومتعلمي العربية من الناطقين بغيرها. ففي “المعجم الوسيط”  عدد من الكلمات التي لم تُذكر جُموعُها، أو ذُكِر بعضُها وأُغفِل بعضٌ آخر، كما في “أعمى” التي أُغفِل من أشهر جموعها: عُمي وعُميان، وهذا من خلال نظرة سريعة في المعجم.

أما عن المعلومات النحوية والصرفية، فمن المفروض في المعجمات الحديثة أن تُدرَج ضمن تعريفاتها المعلوماتُ الصرفية التي ينتمي إليها المدخل، من فعل أو اسم أو مصدر أو صفة…ألخ مع استعمال علامات للاختصار ( ف= فعل – فا= فاعل – مف= مفعول – س= اسم – مص= مصدر- ظ= ظرف – أ= أداة – ح= حرف – ص= صفة …الخ. ولكن معجماتنا العربية -للأسف- لم تتعوَّد على ذلك بعدُ، وقد تعتبر هذا من قبيل الإطالة. والحقيقة أنه أصبح ضرورياً، ولاسيما بالنسبة لمعجمات الطلاب ومتعلِّمي العربية من الناطقين بغيرها.

وقد اقتصر المعجم العربي الأساسي على استعمال علامتين اختصاريتين للمعلومات النحوية، وهما: “مص” للمصدر، و”مؤ” للمؤنث وأما الوسيط، فاستغنى عن استعمال أية علامة خاصة بهذا النوع من المعلومات اللغوية.

ومن الضروري صياغة كل تعريف صياغة مُحكَمة، بلغة واضحة، خالية من اللبس والغموض، لكن مستوفية لكل دلالات اللفظ واستعمالاته وسياقاتها اللغوية.

كما ذكر عددا من المداخل التي يُحال في شرحها على غير ذي مَحلٍّ، وهو أن يُشرح لفظٌ بآخر غير وارد ضمن قائمة مداخله. كتعريفه الجَشيشة بأنها: الجَشيشُ يُلقَى عليه لحمٌ أو تَمرٌ فيُطبَخ. ولكن الجَشيش الذي شرح به الجَشيشة لم يرد ضمن مداخله. وإنما ورد عَرضا ضمن مدخل الفعل “جَشَّ” باعتباره مصدراً له. وفي تعريفه للكَبّاحة قال: آلةٌ تَقِفُ السَّيّارة أو القاطِرة ونحوها، وهي الفَرمَلة. ولكن كلمة” فَرملة” لم ترد ضمن مداخله. وعرَّف “لسان العُصفور” بأنه: ضرب من المَكَرُونة. ولم يرد لفظ المَكَرونَة ضمن مداخله.

ولم يسلَم المعجم الأساسي بدوره من هذا النوع من التعريفات التي يُحال فيها على غير ذي مَحل. فتجده في مادة “ح و ي” يذكر مدخل “حيثُما” ويقول: انظر “حيثُ”. بينما كلمة “حيث” نفسُها لم ترد ضمن مداخله. وفي “أ خ ذ” يذكر مدخل “مؤاخذة” ويعرِّفها بأنها مصدر آخَذَ الذي لم يرد قط ضمن مداخله. ومن تعريفاته “الوسيط” الفاسدة ما دار في حلقة مفرَغة لا مخرَج منها؛ كتعريفه المِبضَع بالمِشرَط، وتعريفه المِشرَطَ بالمِبضَع، وتعريف اللفظ العربي بلفظ أعجمي، كتعريفه المِجهَر بالميكروسكُوب.

أما ما يخص ترتيب المداخل والمعلومات المتَضَمَّنة في كل مدخل استطاعت معجماتنا الحديثة – ومنها الوسيط والأساسي– أن تقطع أشواطاً متقدِّمة في هذه الناحية. فاستقرت على تبنِّي الترتيب الألفبائي العادي، ووضعت ضوابط جيدة لترتيب فروع المادة الاشتقاقية من أفعال وأسماء فيما بينها، وبذلت جهداً لا بأس به في ترتيب المعلومات المتضمَّنة في تعريف كل مدخل. ومع كل هذا، لم يكن الأمر ليخلو من بعض الأخطاء التي نتمنى أن تتداركها المعجمات الجديدة، ومنها:

1- لم يتقيد المعجم الوسيط بترتيب معاني ودلالات المداخل فيما بينها ترتيباً منطقياً مقبولاً، كأن تُقدَّم المعاني المحسوسة على المعاني المجازية .

2- لم يرقِّم المعجم الوسيط الدلالات ترقيماً تسلسلياً يساعد على فصل بعضها عن بعض وتمييز كلٍّ منها على حدة. وقد تنبّه لهذا أصحاب “المعجم العربي الأساسي“.

3- لم يتخلص “المعجم الوسيط” من مشاكل المنهج الاشتقاقي في ترتيب المداخل؛ فليس من السهل على العربي أو غيره إذا لم يكن متعودا على استعمال المعجمات أن يصل سريعاً إلى المكان الذي توجد فيه كلمات من نحو:  “آفة” ( هل هي من: أ وف، أم من: أ ي ف، أم من: غيرهما؟ فالمفروض في مثل هذه الكلمات التي يُظَن استصعابُها أن تُرتَّب ترتيباً ألفبائياً حسب كتابتها، ثم يُحال على مكانها الاشتقاقي. وهذا ما حاول فعله “المعجم الأساسي“.

4- عامَلَ أصحاب “ الوسيط” كثيراً من الألفاظ الأعجمية معاملة الكلمات العربية الأصيلة، إذ رُتِّب عدد كثير منها ترتيباً اشتقاقياً. والمفروض أن تُرتَّب حسب حروفها حرفاً حرفاً. فكلمة “كاثوليك” وردت في “ك ث ل” والمفروض أن ترد في “ك ا ث وما بعدها”.

وقد ظهر” المعجم العربي الأساسي” أحسنَ ترتيباً من “المعجم الوسيط” وأكثر استفادة من الأخطاء السابقة، وحاول الجمع بين ميزتي الترتيب الألفبائي البسيط والترتيب الألفبائي الاشتقاقي. فالكلمات ذات الأصل العربي رُتّبت ترتيباً اشتقاقياً، بخلاف أسماء الأعلام البشرية والمذاهب والكُتب التي رُتِّبت ألفبائياً بحسب حروفها المتركِّبة منها، أما الكلمات التي قد تطرح استشكالاً من نحو: آفة، وآلة، وآب، وآثار، ونحوها، فقد استُخدِم في شأنها نظامُ الإحالة، ومَيَّز في ترتيبه الأفعالَ عن الأسماء. فالأولى يتم البدءُ بها، وتُرتَّب فيما بينها على طريقة  الوسيط”  أي بتقديم الثلاثي المجرّد على المزيد، والمزيد بحرف على غيره. والثانية تأتي بعد الأفعال. لكن تخضع لنوع آخر من الترتيب، بأن تُورد حسب حروفها الهجائية بمراعاة الحرف الأول فالثاني فما بعده.

ولم يسلم هذا “المعجم العربي الأساسي” بدوره من الشوائب والأخطاء الترتيبية، ولم يلتزم التزاماً صارماً بالمنهج الذي سَنَّه لنفسه

خاتمة:

وخلاصة القول أننا استعراضنا لمختلف المشاكل التي لاحظناها في معجمين من أهم المعجمات العربية التي ظهرت في العصر الحديث، وبيَّنا بجلاء نواحي القصور فيهما، سواء من حيث مادتُهما المعجمية والمعلومات المتعلقة بهما، أم من حيث التقنيات المستخدمة في تقديم هذه المادة وترتيبها وتعريفها.

[1] التأريخ للمداخل المعجمية، له أهمية كبيرة في معرفة استخدام الكلمة ومراحل تطورها وتطور دلالاتها. وهذا ما لا يكاد يخلو منه قاموس من المعجمات الغربية.

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى