بحوث في اللسانيات الحاسوبية

اللسانيات الحاسوبية

حمادي الموقِـت

1- اللسانيات الحاسوبية: مفهومها ونشأتها

أضحت اللسانيات الحاسوبيةLinguistique computationnelle ، ذاك الإطار التقني، الذي تنصهر داخله تجليات اللغة الطبيعية وتمظهراتها، في تفاعل يحاول ربط هذه الأخيرة (أي اللغة) بالحاسوب وأنظمته. أو أنها الفرع الذي يبحث في مختلف طرق وكيفيات الإستفادة من قدرات الحاسوب في تحليل اللغة و معالجتها وتعليمها وتعلمها… وإن بدا لك نظرٌ آخر فقل: إنها محطة تقنية تدرس بنية اللغة الطبيعية في ارتباطها بجهاز الحاسوب، على اعتباره أساس المنظومة المعرفية الأولى، في تطويع هذه اللغة كمادة تكنلوجية تبرمج في الحواسيب·* الإلكترونية.

أما مازن الوعر، فيصفها بالإطار العلمي الذي يبحث ” في اللغة البشرية كأداة طيعة، لمعالجتها في الآلة… وتتألّف مبادئ هذا العلم من اللسانيات العامة، بجميع مستوياتها التحليلية: الصوتية والنحوية والدلالية، ومن علم الحاسبات الإلكترونية، ومن الذكاء الإصطناعي Intelligence artificielle، و المنطق Logique ثم الرياضيات، مشكلة بذلك مبادئ اللسانيات الحاسوبية”[1]. ومن جانبها حاولت جمعية اللسانيات الحاسوبية ACL تعريفها قائلة: “إنها الدراسة العلمية للغة من زاوية الإدراك الحاسوبي؛ وبالتالي فإنها تهتم بحوسبة مختلف النماذج والظواهر اللسانية؛ التي بإمكانها أن تكون *قاعدة للمعارف* على سبيل المثال. أما العمل بها فيبرره الإدراك العلمي بخصوصيات الظواهر اللغوية؛ أو ظواهر علم النفس اللساني تارة، والإحتياجات التكنلوجية لدراسة الخطاب أو أنظمة اللغة الطبيعية تارة أخرى”[2].

ولعلك حين تستقرئ مثل هذه التعاريف ربما توافقني الرأي من أن موضوع اللسانيات الحاسوبية، يبقى إطاراً رهينَ الفهم؛ وطبيعة التداول؛ مع درجة الإستثمار الذي يمنحه له الباحث  اللغوي-الحاسوبي بالدرجة الأولى. فيبقى بالتالي عملا لغويا آليا بامتياز، يُعالَج مثل كيان موحد ومنظم في قلب الحواسيب الإلكترونية، وكأنه إجراء دقيق لبعض العمليات الخوارزميةAlgorithmique أو الرياضية Mathématique والرمزية Symbolique والخطية (الخطاطة)Graphique   داخلها؛ في ارتباط تام يجمع بين مكونات الحواسيب ووسائطها les paramètres من جهة، وبين منظومات اللغة أو مستوياتها من جهة ثانية. وبمعنى آخر أجدى، محاولةُ مَنطقة اللغة الطبيعية وصورنتهاFormalisation  في قالب يتناسب ومبادئ نُظم الحاسوب. الأمر الذي استدعى تنظيم عدة مناظرات ومؤتمرات وطنية ودولية، للبحث والدراسة في أسس هذا المولود المعرفي وتبعياته العلمية، حتى كان للمغرب الشرف في تنظيم بعضها، كمؤتمر: “اللسانيات التطبيقية العربية ومعالجة الإشارة والمعلومات” بالرباط سنة 1983، ومناظرة:”اللغة العربية والتقنيات المعلوماتية المتقدمة” الذي عُقد بالبيضاء سنة 1993. وكلها محاضرات – كما يبدو – تتعلق بقواعد ومستويات تحليل اللغة العربية، على اعتبارٍ أوَّلَ هو: الدفاع عن صحة واقعها العلمي، ومن اعتبار ثانٍ: إثباث القول إن اللغة العربية واحدة من إحدى اللغات التي تؤسس المنظومة اللغوية العالمية ، وباستطاعتها أن تواكب التقدم التقني والتكنولوجي الذي ساد العصر.

وتجب الإشارة إلى أن:”اللسانيات الحاسوبية” قد عُرفت بِنُعوتات أُخرى، من قبيل “اللسانيات المعلوماتية” Linguistique informatique  عند الإخوة التونسيين مثلا، غير أنها لاتمس مضمون ما جاءت به، بل من ناحية ضبط المصطلح الواصف فقط، وهو ما يتضح عند Philip miller  و Thérèse torris  في كتابهما: Formalismes syntaxiques pour le traitement automatique du langue naturelle  حينما يقولان :” إن اللسانيات المعلوماتية في مفهومها الواسع، هي ما تحاول أن تطور أنظمتها وبرامجها لمعالجة اللغة الطبيعية في الحاسوب”[3].غير أنه يبقى وصفا محدودا، بحكم اللبس الذي  قد يلف جوانب مفهوم “المعلوماتية” إذ لايمكنها بأي حال من الأحوال أن ترادف “الحاسوب”، بل تقتصر على جمِّ المعطيات والبيانات التي تشكل قاعدة ما سيعالجه هذا الحاسوب  Ordinateur/ Computer.

أما البدايات الأولى لظهور العمل باللسانيات الحاسوبية – ولو في شكله الأولي-  يمكنني القول عنه ومن خلال استنتاج بسيط على ضوء ما قيل: إنه تزامن مع اكتشاف الحاسوب نفسه بحكم طبيعة العمل الذي اقتصر آنذاك على معالجة البيانات العددية و الكلمات المطبوعة والمنطوقة والأصوات والرسومات… لبعض المؤسسات الحكومية في إطار سياساتها الداخلية والخارجية، وذلك منذ الخمسينيات من القرن العشرين تقريبا.

وكيفما كان الحال، إذا كانت اللسانيات العامة تدرس اللغة الطبيعيةَ الدراسة العلميةَ الكفيلة بتحليل مستوياتها ووسائطها، تحليلا يُبْرِز شُعبها و يُبَرِّر ظواهرها، كَنِتاجٍ اجتماعي من جهة؛ وكأداة للتواصل من جهة ثانية، فإن الحاسوب– ذاك الطفل الذي ولد كبيرا بحجم (الحياة)- كما لقبه بذلك لويس كارول، عالَم رقميEspace virtuel، فرض وجوده ” كآلة إنجاز خام يتم توجيهها من خلال البرمجيات لتنفيد وظائف محددة “[4]. فما الحاسوب إذن؟ ومتى ظهر؟

2- أهداف اللسانيات الحاسوبية.

إن أهم ما تصبو إليه اللسانيات الحاسوبية، هو محاولة تلقين الحاسوب لغة بشرية تمكنه من التحاور مع مريديه شفويا و كتابيا، حتى يصبح قادرا على فهم الكلام وإنتاجه وتوليده، كما هو الحال بالنسبة للدماغ البشري، بمعنى آخر أن يصبح الحاسوب قادرا على محاكاة أو على الأقل مجاراة التفكير والإنجاز البشريين.

2-1 التفكير البشري Le Pensé

إن مجهودات علماء الحاسوب في هذا الشأن، ما زالت في محاولات لبناء نظم قادرة على فهم اللغة الإنسانية وإنتاجها تماما كما يفعل سائر البشر. إلا أن الأمر لم يكن باليسير عليهم؛ رغم ما توقعه اليابانيون في العقدين الأخيرين، حين اختراعهم لجهاز حاسوبي ينتظرون منه معرفة ما يريده مستخدموه عن طريق “فعل السؤال والجواب”Acte : Question / Repense ، ثم جعله قادرا على مناظرة الإنسان بلغته القومية وفهم الكلام والصورة. وكذلك القدرة على التعلم وفعل الإستنتاجات واتخاذ القرارات، ثم التصرف بالطرق التي نعتبرها جزءا شاملا من التفكير المنطقي المؤدي إلى استنتاجات العقل البشري. ليكون نتاج ذاك الهم وأساسه تمثيلا للمعرفة البشرية المصنوعة. ومادامت هذه الأخيرة تعد قوة المجتمع المعلوماتي، فإن الجهاز الذي سيكون قادرا على استيعاب معرفة الإنسان؛ يستطيع استيعاب أي بُعد من معرفته، كما يؤكد على ذلك الخبير في مجال الحواسيب، الياباني ادوارد فايجنبوم[5] E.A.Feigenbaum.

لكننا في مقابل ذلك نجد أن Sylvain surcin (1999) يتأسف على عدم تحقيق مثل هذا الرجاء بقوله: “…ذلك أنه كلما تقدمت خطوات استقصاء المعلوماتيين لأنماط انتظام المكونات اللغوية المختلفة ووقائعها المتنوعة، واستكشاف أبعاد اشتغالها المعقدة، كلما صادفتهم مشاكل عديدة تحطم رؤاهم الأولية، وتصوراتهم البسيطة التي كانوا يعتبرون اللغة بموجبها تكديساً من الأنظمة المتتالية والمستقلة عن بعضها البعض”[6]. وقبله Augustin Lux (1990) حين يقول:” إن الواقع يتجاوز التوقع “[7]، وكان يعني بذلك ؛ أن الأمل في بناء آلة تحاكي السلوك والتفكير البشريين أمرا يبقى في حضن الإستفهام.

لكن هل من الواجب على الحاسوب أن يحاكي سلوك البشر في التفكير؟؟؟

وضع مينسكي(1965)  السؤال نفسه – وقبله Alan Turing (1950) – حين نفاه مرتين وأتبته واحدة قائلا[8]:”لا، لايستطيع الحاسوب التفكير، لو حدَّدنا هذا المفهوم في ارتباطه بأي نشاط إنساني خاص…، ولا يفكر كذلك لو كان ما سينتج من الفكر غير قابل للتحليل، كأن يكون شيئا أسطوريا أو خياليا أو حتى سريا”. وأثبته مرة واحدة بشرطٍ  لما قال:” نعم، يستطيع الحاسوب أن يفكر لو وجد السؤالُ مساره نحو التجربة، وكانت الملاحظة إجراء حاسم في مقارنة السلوكات الآلية بالسلوكات البشرية ، ليتبين لنا عندها من هو أهلٌ للتفكير”. وبناءا على هذا الإثبات، فهل يعني ذلك أن “نظام التعرف والفهم الإنساني” الذي أتى به Rossi Mario (1996) في مقاله:”المعارف والمعالجة الآلية للكلام”[9] نظام بأساس معرفي Système à base de connaissance ؟. لقد ترك هذا السؤال ومثله، حيرة على كل التقنيين المختصين في مجال الحاسوب، وكذا اللسانيين المهتمين بالسلوك البشري، في محاولة فردية لإيجاد توافق ولو بسيط بين المجالين، رغم أن البعض منهم لايعترف بدور الفريق الثاني في نجاح ذاك النظام المعرفي. وعليه تؤكد الزمرة الثانية عدم قدرة الحاسوب أو أي نظام آخر مهما بلغت قوته وسرعته، على التكافؤ مع الإنسان، إن لم يتأسس على تقييس (محاكاة)Simulation تام ودقيق للسلوك الإنساني. لأن المشكل لم يكن ليُطرح لو توفرت الآلة على مخ إنساني[10].

لقد كانت الحواسيب” الذكية” ولازالت حلم علماء الحاسوب ومهندسيه ومستخدميه على السواء، منذ ما يربو عن نصف قرن تقريبا، “فكلما أمعنا النظر – يقول نبيل علي – في المعمارية المقترحة لحاسوب الجيل الخامس ونظم تشغيله وتطبيقاته المستهدفة، تأكد لنا الدور الرئيس الذي تلعبه اللغة في هذا المشروع الطموح، الذي يسعى في الدرجة الأولى إلى تطوير حاسوب لغوي في بنيته ونظامه وتطبيقاته، حاسوب ذكي قادر على التعامل اللغوي، تحليلا وتركيبا، يميز الأصوات ويولدها، ويحلل النصوص ويؤلفها، حاسوب منطقي ذي قدرة على توصيف المشاكل وحلها، والتأكد من صحة المعطيات، واستخلاص النتائج وإيجاد الحلول. إن نجاح العلماء والمهندسين في تطوير حواسيب ذكية سيفتح الباب على مصراعيه لكثير من التطبيقات اللغوية التي ظلت ولِوقْت قريب من قبل الخيال العلمي”[11]. ويضيف قائلا: “وعلى الرغم من أن نجاح مشروع الجيل الخامس لم يتقرر بعد – ويشكك البعض في إمكانية تحقيقه – إلا أن جميع البوادر تشير إلى إنجازات مذهلة مرتقبة سنكتفي هنا بذكر بعضها:

–       الترجمة الفورية بين عدة لغات.

–       آلآت كاتبة تعمل بالإملاء، أي قادرة على تمييز الكلام المنطوق وتحويله للمقابل المكتوب.

–       آلات قارئة قادرة على تمييز النصوص المكتوبة وتحويلها إلى المقابل المنطوق.

–       نظم آلية للفهرسة والإستخلاص والإختزال.

–   إجراء الحوار بين المستخدم والحاسوب باستخدام اللغات البشرية (الطبيعية) مباشرة ودون الحاجة إلى لغات برمجة خاصة أو شفرات اتصال معينة”[12].

والحقيقة أن للتقييس (المحاكاة) زمنا بدأ مع العلوم الدقيقة والتطبيقية خاصة في مجالي الهندسة والعلوم، فكان استعماله يقتصر على اختبار صلاحية فرضية ما عندما لايُتاح اختبار النظام الحقيقي. يقول الدكتور عادل عوض عن المحاكاة الحاسوبية: “بعد أن يجري تطوير نموذج رياضي ديناميكي لعملية ما، فإن المعادلات التي تشكل النموذج يجب حلها كي تسمح بتقدير سلوك العملية بالعلاقة مع الزمن. وعملية التطوير هذه تُعرف بالمحاكاة، ويمكن الوصول إليها باستعمال النموذج لاكتشاف تأثير الحالات المتغيرة في النظام الحقيقي”[13].

وعموم القول: إن تطوير برنامج حاسوبي يلبي هذا المبتغى – على غرار الأنظمة الدماغية للبشر، والعمليات التي تقوم بها والمتباينة بين البساطة والتعقيد – لهو برنامج يرغب في التقرب من البنيات الذهنية للإنسان وإدراك خصوصياتها وسلوكها ومميزاتها على حسب ما يفرضه الموقف التواصلي عليها.لامن حيث اشتغال الذاكرة الإنسانية والتذكر، ولامن حيث التعلم واستدعاء الكلمات ، وبناء الجمل وفهمها وإنجاز الكلام ومعرفة ثوابت القراءة والكتابة[14]. والغرض من كل ذلك هو محاولة التوصل إلى إنجاز فعل تواصليActe de communication  متضمن لكل الشروط المنصوص عليها والمتعاقد عليها من قبل المتخاطبين، مما يعني، محاولة إيجاد وتوفير كل السبل والظروف التي من شأنها أن توصل المعلومة أو المعرفة- بصفة عامة- إلى مريديها، على الهيئة والكيفية التي يريد. وطبعا، لما علمنا أن عقل الحاسوب لازال عاجزا عن تأدية وتطبيق مثل هذه الوظائف، فإن مطمح محاكاة سلوك الدماغ البشري سيبقى معلقا إلى أجل غير مسمى. وربما كان العائق الأكبر وراء عدم تحقيقه تلكم الأنساق غير اللغوية، أو الخصائص الصورية المساعدة -أكثر من مرة – في تحديد المعنى وتقريب التفاعل وتحقيق التواصل بين المتخاطبين، لأن العلاقة بين هؤلاء لاتقتصر على ما هو لغوي، بل لابد من سلوكيات أخرى غير نسقية- ولاتشكل جزءا من نسق اللغة- تساهم بشكل كبير في إنجاح الفعل التوصلي، كما هو الحال في الأحاسيس والتأوهـات والتعجب والحدوس والأذواق وبعض الأعراف وكثير من الإنفعالات الأخرى التي لولاها لما تم الكلام ولما فُهم مقصدُه. الأمر الذي يؤكده بعض الخبراء، بحكم قناعتهم من أن نظم الحاسوب؛ لايمكن أن تقوم إلا على أساس رياضي، لايُعير أي اهتمام للشك أو الريب أو التخمين، وعنها يقول مازن الوعر:”..ليس هناك شعور أو حدس أو توقع، عندما تُعرض مثل تلك المواد على الحاسوب الإلكتروني ، لأن ما يُعطيه هذا الحاسوب من نتائج ستكون علمية موضوعية”[15]، لامجال للأحاسيس والشعور فيها.

ورغم هذه الصعوبات لم يقف البحث التكنولوجي مكتوف الأيدي، بل لم يزده ذلك سوى حماس وتصميم، بهدف إيجاد ولو حل مبدئي لهذه المعضلة المعلوماتية. فهذا ما حدا بـ: Sabouraus (1995) إلى اقتراح مبدأ التقييس Simulation ” كاختبار تجريبي تتحدد ثوابته الإجرائية داخل الإنشغال الدقيق بقضايا الذكاء الإصطناعي”[16]. بمعنى آخر؛ محاولة نمذجة اشتغالات القدرة الإنسانية اللسانية وتقييسها آليا، عندها يسهل علينا معرفة طبيعة محاكاة أو تقليد الدماغ البشري .خاصة إذا علمنا أنه قد طلع علينا اكتشاف جديد قد يفيد إلى حد كبير، أو على الأقل إرشاد المهندسين المختصين واللسانيين على حد سواء، إلى ملامسة دماغ إلكتروني يُماثل الدماغ البشري، بعد أن أصبحت رقائق الحاسوب حيوية تُستبدل فيها الصمامات بجزيئات الحامض النووي الوراثي؛ التي تُشفر المعلومات الوراثية أو بروتينات مُعدلة بالهندسة الوراثية[17]. ولعل إدماج المادة الحية كالبروتينات مع الرقائق الحاسوبية تبدو للوهلة الأولى مستقبلية للغاية، لكنها في الواقع معروفة بين مجالات الإلكترونيات. إذ أن هناك حقيقة بسيطة تقول : إن هناك كثيرا من العمليات التي ينفذها الحاسوب يُفترض أنها تحل محل المجهودات البشرية، ولذلك يقول  د. رؤوف وصفي: “ليس من المدهش أن علماء الحواسيب ربما يرغبون في دمج بعض خصائص الإنسان (التي يمكنها أن تؤدي نفس ما يقوم به الدماغ البشري من مهام ) في تصميم الحاسوب[18] “. ولأهمية الرقاقة الحيوية وكيفية عملها ارتأينا أن نخصص لها هذا المحور:

2-1-1 الرقاقة الحيوية:Bioship

أصبحت الرقائق الحاسوبية إحدى أهم السمات التي تميز الحضارة المعلوماتية في زماننا هذا، فهي موجودة في كل مكان حولنا، فكما تجدها في الحواسيب الشخصية، قد تجدها كذلك في الهواتف المحمولة والثلاجات والمكيفات.. إلخ. إن هذه الرقائق الدقيقة”الذكية” هي التي تقود المنطق الذي يسيطر على التقنيات العلمية الحديثة .

فقد نجح العلماء حسب د.رؤوف وصفي دائما، في الجمع بين المركبات العضوية طويلة السلسلة les composantes organique à Chaîne long  والرقائق الحاسوبية المصنوعة من السليكون Slicon  لخلق مجال جديد تماما، من علوم الحاسوب، يتعلق بتشغيل الحواسيب الحيويةBiocomputers . ولا أدل على هذا مساهمة علماء الهند في “”وضع الأسس النظرية لتكنلوجيا “البيوسليكون” لدمج العناصر البيولوجية مع شرائح السيلكون الإلكترونية “”[19] مع توقع الكثيرين لها بأن تُحدث ثورة عارمة في مجال الحواسيب الإلكترونية.

وعندما يتم العمل بين علماء البيولوجيا وعلماء الحاسوب بدمج جديلة Strand المادة الحية في الرقاقة الحاسوبية، فإنهم في الواقع سيصنعون رقاقة حيوية تشبه في تركيبها الرقاقة التقليدية للحاسوب، باستثناء تغيير الصمامات بجزيئات كيميائية عضوية أو بروتينات “مهندسة” بتقنية الهندسة الوراثية. ووفق رأي العلماء –يضيف رؤوف وصفي- فإن للرقاقة الحيوية عدة مزايا، بالمقارنة مع الرقائق الحاسوبية المستخدمة في الوقت الحاضر منها: زيادة العناصر الحسابية وإيجاد طراز جديد في معاملة المعلومات الحيوية في أعمال ذات مستوى عال مثل دراسة تتابع الجينات.

وعلى هذا، فالرقاقة الحيوية تبدو مثل ’’وعاء’’ (شريحة من السليكون) به مكعبات بالغة الضآلة (يُطلق على كل منها خزان) ويحمل كل خزان عينة من المادة الحية، وكل عينة من هاته تختلف عن باقي العينات الموجودة على الرقاقة، مما يعني أنها سوف تتفاعل (أو قد لاتتفاعل) مع البيئة المحيطة بها، بطريقتها الخاصة. ولاستخدام الرقاقة الحيوية، يقوم العلماء بتعريضها لبيئة معينة، قد تكون هذه البيئة صوتا أومجموعة أصوات(كلمات، آهات،…) لمستخدم الحاسوب، ثم بعدها يُراقب عمل كل عينة وتفاعلها مع العينات الأخرى.

دمج المادة الحية مع الرقائق الحاسوبية

2-1-2 الرقاقة الحيوية والجينوم البشري Ginome

إن طبيعة العلاقة الكائنة بين “الرقائق الحاسوبية” و”الرقائق الحيوية” هي في حقيقة الأمر نفس العلاقة المفترضة بين الحواسيب وعلم الأحياء. إلا أن ما يُنتظر من الأولى هو محاولة دمج الرقائق الحيوية الممثلة بجدائل الحامض النووي الوراثي ADN؛ في رقائق الحاسوب على اعتبار أن هذا الحامض النووي جزيء يحتفظ أو يمتلك خصائص مميزة وسمات فارقة بين أصناف الكائن البشري. يوجد في نواة الخلية ويشفر المعلومات الوراثية، ويحتوي على كل التعليمات والبرمجة التي تسيطر على نمو وتطور وسلوك الخلايا الحية.  لذلك فإن اختياره هذا، لم يكن اعتباطيا أبدا؛ بل كان ذا مغزى عظيما. والدلائل العلمية أكدت نجاعته في غير ما مرة. كتحديد  هوية الأشخاص مثلا، عندما يُعرضون الرقاقة الحيوية لمحلول يحتوي على عينات من سلاسل مجهولة من جزيء الحامض النووي الوراثي، حيث ستلتصق جزيئات هذا الأخير الموجودة في خزان الرقاقة الحيوية بعينات الجدائل المحتوية على المتممة لها في نقطة محددة. وسيمكن هذا الإلتصاقُ العلماءَ من تحديد الخزانات التي يحدث فيها اتصال ثم معرفة مكان حدوثه. ومن ثم يُصبح بإمكانهم إعادة تشكيل الجدائل الطويلة للعينات وقراءتها وتفسيرها، فتوصف هذه العملية في نهاية المطاف بأنها’’ بحث عن كلمة’’ لأن كل جزيء يمثل كلمة “معروفة” كما أن كل عينة طويلة من الجزيئ تُعبر عن “جملة كاملة”، وبعد تحديد كل الكلمات الموجودة في الجملة، وترتيبها، يمكن للعلماء آنذاك من تفسير “الجملة” وفهم معناها[20]. غير أن هذا التفسير وهذا الفهم لايتم إلا بتحليل رياضي دقيق لتشفير الرقائق الحيوية ومعرفة ما الذي تفصح عنه.

وكما هو الحال بالنسبة لجزيئ الحامض النووي الوراثي، ربما يسري الأمر كذلك على “البصمة الصوتية” لمخاطب الحاسوب أو “بصمة عينيه”، عندما يُقترح بناء نظام حاسوبي تُحلَّل على ضوئه كل الظواهر غير اللغوية، والتي لاتشكل جزءا من نسق اللغة. لكنها تمثل في مقابل ذلك “لغة للدواخل والأحاسيس الإنسانية”، ولم يكن لي هذا الإقتراح إلا لعلمي من أن للبصمتين المذكورتين قوة التأثير ومركز انجداب كل انفعالات وتأوهات الذات البشرية.

وعليه، فإن الهدف الأول والأخير لعلم اللسانيات البيولوجي وعلاقته بالحاسوب واللسانيات وعلم الرياضيات وعلم النفس وبعض العلوم الأخرى، هو معرفة بنية العلاقات القائمة بين الوظائف اللغوية وبين الوظائف البيولوجية في الدماغ البشري، على أساس وصفٍ وتشريحٍ رياضيين تجريديين لهذه العلاقات[21]. والغاية من ذلك  تحقـيق الكفاية أو المقدرة اللغوية للحاسوب، أو ما يُصطلَح عليه الآن بالكفاية الحاسوبيةCompétence computationnelle .والتي من خلالها يمكن للحاسوب أن يعرف اللغة شكلا ومضمونا وبوجهيها الكلامي والمفهمي. وبعبارة أدق هي النظام الذي يُوَلِّد ويُنتج ويُفسِّر الجمل تفسيرا دلاليا صحيحا ومفهوما.

2-2 الإنجاز البشري Le performance

أما الهدف الثاني لمسار اللسانيات الحاسوبية، فهو محاولة محاكاة الإنجازالبشري في إنجازه وقيامه بمجموعة من الوظائف والمهام المحوسبة، أثناء استيعاب وفهم اللغة. لهذا يبدو أن هذا الهدف لايتم إلا بعدما يتحقق الهدف الأول، وهو الذي كنا بصدد الحديث عنه آنفا؛ لأن طبيعة الحال تؤكد أن سلامة الأداء مرتبطة بسلامة التفكير والذكاء. مما يعني أن الفاعليتين لايمكننا بأي حال من الأحوال التفريق بينهما. وفي حالة ما إذا نهج  شخص هذا الطريق –كحال كينتش- فإنه يعني الفصل بين عمليتين بيولوجيتين متعاقبتين بالفطرة لا بالإكتساب. يقول مازن الوعر بصدده:” فبالرغم من أن ’’كينش’’ كان قد اعتبر الفصل الحاد بين المقدرة اللغوية وبين الأداء اللغوي فصلا متعلقا بمفهوم تينك الفاعليتين وتعريفهما، فإن الفصل[ بينهما]يبقى حادا في منهجه [المتمثل]في دراسة الخصائص المعينة للمستويات المتمثلة في الذاكرة دراسة نظرية وتطبيقية”[22]. ومن جانبه تجد الدكتور ميشال زكريا وقد أكد على ذلكم التكامل الحاصل بين الكفاية والأداء عند صاحبها شومسكي، حين يقول على لسان مشال زكريا:”فالأداء الكلامي هو الإستعمال الآني للغة ضمن سياق معين،[وفيه] يعود متكلم اللغة بصورة طبيعية إلى القواعد الكامنة ضمن كفايته اللغوية ، [فكلما]استعمل اللغة في مختلف ظروف التكلم ، فالكفاية اللغوية ، بالتالي، هي التي تقود عملية الأداء الكلامي”[23]. أما فيما يخص الدراسة النفسية لفاعلية الإنجازفيقول مازن الوعر: ” إن المهمة الرئيسة لعلم النفس هي دراسة الإستعمالات الحقيقية للغة ثم التفسيرات المتعلقة بمثل هذه الإستعمالات. وبعبارة أخرى ينبغي على علم النفس أن يهتم بالأشكال اللغوية المؤطرة والمنظرة للمقدرات اللغوية، تلك الأشكال التي تمر في مراحل مختلفة من النمو والنضج اللغوي عند اكتساب الطفل للغة معينة[24].

والواقع، أنه يبدو لنا أن علم اللسانيات أحيانا علم واسع و متشعب الجذور بحيث تصل جذوره تخوم علوم دقيقة أخرى كما أسلفنا ذكر بعضها من قبل، وأحيانا ثانية يبدو أنه علم لايكاد يدافع عن وجوده وكيانه ضمن منظومة العلـوم الإنسانية، بحيث تراه مؤلـف ومركب، فجزء منه يهتم به علم النفـس وجزء آخر يهتم به علم الرياضيات وآخر يهتم به علم البيولوجيا ورابع يهتم به علم المنطق.إلخ .الأمر الذي يثير تساؤلات كثيرة حول نجاعته أو مدى تحقيقه لمبتغاه إن لم تساعده وتتفاعل معه هذه العلوم.خاصة وأن الوظائف التي تنتظره في جانبه التقني المرتبط بالآلة؛ تحمل في طياتها إشكالات ضخمة نذكر من بينها على لسان(1990) Augustin   LUX:

1-                البث في المشاكل؛

2-                تدبير قواعد المعرفة؛

3-                اللغة الطبيعية كسبيل للتخاطب مع الحاسوب؛

4-                البرمجة الذكية: و مشاكل التطبيق المرتبطة بمدى نجاعتها…

إن عملية التخاطب عموما بين البشر والحاسوب تقتضي معرفة تامة بقواعد الحوار من جهة وبعض المعارف الثقافية والإجتماعية[25]، إضافة إلى القدرة على الإستنتاج من كل الظواهر المحيطة. فقد يكون الحال ترجمة آلية أو أصوات متباينة المصدر أو حتى محاكاة أداء رجل مسن، لهو أمر يستدعي استثمار ظروف خارجة عن نطاق الشخص ذاته، كما لو أردنا تسجيل أو محاكاة صوت بشري، فإن ظروف التسجيل تمهد لأولى العمليات التي من شأنها أن تُنجح وتضبط برمجة الصوت آليا.

ومنه؛ فإن الإرتياب والخوف من المغامرة العلمية التي تهدف إلى سبر الفاعليات الفطرية الموجودة في الدماغ، هو ما يجعلنا أحيانا نحس بالفشل واليأس. والصواب في نظري أن أأكد على الطبيعة التجريبية لكل فكرة أو بحث علمي، خاصة إذا كان يحاول التقرب من معرفة طبيعة الفاعليات البيولوجية الفطرية في الدماغ البشري.

وعلى اعتبار هذه الأهمية التي بلغتها فاعلية الأداء، في حالة ما إذا تمكن الإنسان العـــــادي السليم قبل الآلة،

– بعد استماعه لعدد وفير من الألفاظ وبالتقاط القواعد والقوانين- أن يضع السؤال التالي: هل بإمكان هذا الإنسان أو ذاك الحاسوب أن يستخدم هذه القواعد المخزنة في فهم وإنتاج جمل جديدة؟ و استعمالها الآني؟ رغم أن هذا الأخير كما يقول نوم شومسكي: “لايعكس فقط العلاقات الأصلية القائمة بين الصوت اللغوي وبين المعنى ، والتي تندرج في تنظيم القواعد اللغوية …”[26]. ويضيف قائلا: “إن استعمال اللغة يستخدم تنظيمات معرفية تتعدى الكفاية اللغوية المراسية . فنظرية الأداء الكلامي تُحاول وضع نماذج متطورة تتضمن القواعد وبنى معرفية أخرى، كما تشمل أيضا دراسة الحالات الفيزيائية والإجتماعية لاستعمال اللغة. هذه المسائل لايلحظها التجريد القواعدي”[27]. وقد عدد ميشال زكريا مجموعة من هذه المسائل،- أضيفها إلى التي سبقت– وهي كالتالي: – ملائمة الكلام للظرف،

– سهولة تفهم الكلام،

– حقيقة الكلام،

سلامة الكلام ومراعاة مقتضى الحال ،

– الأسلوب الكلامي أو ما اصطلح عليه عند رومان جاكبسون بالوظائف اللغوية .

وبعموم اللفظ أقول: إنه إذا كان للتفكير البشري (الكفاية اللغوية) والإنجاز البشري (الإنجازالكلامي)، جانب من الإهتمام والتكامل – رغم وضوح الفكرة – فإن المشكل المطروح هو مدى استيعاب الآلة لهاتين الفاعليتين في ضوء التحكم اللغوي، أو بمعنى آخر هو درجيات قيام نموذج قادر على تمثيل دماغ بشري يُقيَّد على أساسه حتى يستجيب لسلوكيات الكلام ولو في جزء منه.

وأمام هذه التحديات والصعوبات، لجأ الباحثون في علم اللسانيات الحاسوبية إلى العمل في نماذج تُعنى بمجالات لغوية محددة، حين انصب اهتمامهم على دراسة الجانب اللغوي فجزؤوه إلى نحو ومعجم وصرف وصوت ودلالة… فعدَلوا (مؤقتا) عن فكرة بناء نموذج (يحاكي) مقدرات الإنسان اللغوية وغير اللغوية، وركزوا مجهوداتهم على بناء نماذج حاسوبية معينة وفي حقول محددة.

——————————————————————————-

  • * من الآن فصاعدا سأستعمل مصطلح : حاسوب ج حواسيب أو حواسب بدل حايب وحاسبات
[1] – مازن الوعر ، قضايا أساسية في علم اللسانيات الحديث ، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر ، الطبعة الأولى 1988، ص 435. [2]- http://acl.ldc.upenn.edu/p/p79/ [3] – philip miller & thérèse torris Formalismes syntaxiques pour le traitement automatique  du langue naturelle , HERMES ,paris , 1990, p 15 [4]- نبيل علي ،( البرمجيات ومهمة توظيف المعرفة) ، مجلة العربي ، العدد 541 ، دجنبر 2003 ، ص 136. [5] – ادوارد فايجنبوم و باميلاماك كوردك ،( الجيل الخامس : الذكاء الصناعي والتحدي الياباني للعالم )، 1987 ،ص 268. [6] – مصطفى بوعناني ، الفونولوجيات الحاسوبية والمسارات المعرفية للإنجاز الكلامي ، ملفات معرفية ، الملف الأول ، مطبعة أبي ، الطبعة الأولى ، 2003،ص 5و6 [7] – Augustin LUX , (Sur l’evolution de l’intelligence Artificielle ) LA MACHINE PERCEPTIVE ,11/12 Janvier 1990 ,P12.

8] – المرجع نفسه، ص 11.

[9] – مصطفى بوعناني ، الفونولوجيات الحاسوبية والمسارات المعرفية للإنجاز الكلامي ،2003،ص 5و6 [10] – المرجع نفسه، ص 91. [11] – نبيل علي ،( اللغة العربية والحاسوب )، ، مجلة عالم الفكر ، العدد الثالث ، المجلد 18 ، أكتوبر ، نونبر ، دجنبر ، 1987 ،ص60. [12] – المرجع نفسه، ص 60. [13] – د.عادل عوض ، (تطبيقات النمذجة والحاكاة الحاسوبية في الأنظمة البيئية-المائية) عالم الفكر ، العدد 3 ، المجلد 32، يناير –مارس 2004 ، ص 126. [14] – مصطفى بوعناني 2003، ص 6. [15] – مازن الوعر ، 1988 ، ص413. [16] – مصطفى  بوعناني ، ،2003، ص 6. [17] – رؤوف وصفي ، (قلب الكومبيوتر الحي) مجلة العربي ، العدد 543، فبراير 2004، ص146. [18] – المرجع نفسه، ص147. [19] – نبيل علي ، الثقافة العربية وعصر المعلومات ، مجلة عالم المعرفة مطابع السياسة ، العدد 276 ، الكويت ، دجنبر 2001 ، ص 74 [20] – رؤوف وصفي ، 2004، ص150. [21] – مازن الوعر ، 1988،ص403. [22] – المرجع السابق، ص199. [23] – د.ميشال زكريا ،الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية(النظرية الألسنية) ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،الطبعة1 ، 1982 ،ص33. [24] – مازن الوعر ،  1988،ص196. [25] – شحدة فارع وآخرون،مقدمة في اللغويات المعاصرة ، نشر وائل ، الجامعة الأردنية ، (بدون طبعة ولاسنة)، ص319 [26] – ميشا ل  زكريا، 1982ص 33. [27] – المرجع  نفسه ، ص 39.

 

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى