مقالات في اللسانيات الحاسوبية

مكانة النظام الصرفي من النظام اللغوي:

د. عبدالعزيز بن عبدالله المهيوبي

“اللغة كالجسد الواحد؛ تربطه وحدة عضوية، وتصل بين أجزائه شرايين وأعصابٌ قد تكون متناهية الدقَّةِ، إلا أنها تجعل سلامة عضو تعتمد على سلامة عضو آخر بل حياته أيضاً”[1]. وهذه الدراسة إذْ تُعنى بالنظام الصرفي، فإنها تأخذ بعين الاعتبار ذلك التقاطع بينه وبين مستويات النظام اللغوي الأخرى؛ فالنظام الصرفي يتناول قواعد أبنية الكلم، ولكنَّ هذه الأبنية هي عضو في جسم النظام اللغوي، تؤدي وظيفتها من خلال التواصل الوثيق، والترابط العضويّ بينها وبين سائر العناصر اللغوية الأخرى؛ فتَحَوُّلُ الكلمة من شكلها الأصلي إلى صورتها المنطوقة محكوم بقوانين صوتية، كالإعلال، والإبدال، والإدغام. واتخاذ الكلمة أبنيةً صرفيةً يحدّد وظائفها النحوية ومواقعها التركيبية، فالمفعول المطلق مصدر، والأصل في التمييز أن يكون جامداً، كما أنَّ الأصل في الحال أن يُصاغ من مشتق. “والأبنية مفاتيح المعاني؛ فإلى جانب المعنى الأصلي الكامن في جذر الكلمة، يُضيف البناء معنى يجعل منه باباً مشتركاً بين مفردات يجمعها ذلك البناء، ويفترق بها عن أبنية أخرى، فـ(فاعِل) وصفٌ يدلُّ على القائم بالفعل أيّاً كان الفعل، نحو من قام بالقراءة أو الكتابة أو الضرب في (قارئ) و(كاتب) و(ضارب) على التوالي، وهي تدخل في باب اسم الفاعل. وبناء (مفعول) وصف يدلُّ على من يقع عليه الفعل أيّاً كان الفعل نحو: (مقروء) و(مكتوب) و(مضروب)، وهي تدخل في باب اسم المفعول”[2]

وللصرف العربي خصوصية تميزه عن غيره من المستويات اللغوية، تتمثَّل في مركزيته في النظام اللغوي؛ إذ يُمثِّلُ قلب النظام “ورابطة العقد لعناصر المنظومة اللغوية، فهو ركيزة الفونولوجي، ومدخل النحو، وأساس تنظيم المعجم”[3]. وقد دفع هذا الدور المركزي للنظام الصرفي البعض إلى الدعوة إلى إقصائه من الدرس اللغوي[4]، وتوزيع موضوعاته بين علم الأصوات وعلم النحو؛ إذ يرى أحدهم أن الصرف “ليس غاية في ذاته، وإنَّما هو وسيلة، وطريق لدراسة التراكيب والنصوص التي يضطلع النحو بالنظر فيها … ولا قيمة لنتائج البحث الصرفي إذا لم توجه إلى خدمة الجمل والتراكيب”[5]. وإذا كان هذا الإقصاء مُسوَّغاً في اللغات ذات الطبيعة الإلصاقية، فهو غير مُسوَّغٍ عند دراسة اللغة العربية؛ وذلك لخصوصيّة نظامها الصرفيّ، والذي يحقّ له أن يكون مدخلاً لدراسة الأنظمة اللغوية الأخرى.

وعند معالجة الصرف حاسوبياً، فنحن بحاجة إلى فصل النظام الصرفي عن المنظومة اللغوية ودمجه معها في الوقت نفسه؛ فنفصل النظام الصرفي بغرض تجهيزه للمعالجة الحاسوبية، وذلك بهدف إحصاء المطّرد من قواعده، وحصر الشاذ، وبيان إشكاليات معالجة الصرف حاسوبياً. في حين يرى (نهاد الموسى) أن الدمج بين النظام الصرفي والأنظمة الأخرى، “يُعدُّ مطلباً أساسياً، ودليلاً إضافياً لازماً في تمثيل العربية حاسوبياً؛ فالعربية في معظم نصوصها المتداولة، والمعاصرة غير مشكولة، ولذلك تنْحَسِر إمكانات الكشف عن حقائقها الذاتية على كل مستوى وحْدَه. ويصبح الاستدلال على حقيقة كل مستوى معتمداً بالضرورة على حقائق سائر المستويات”[6]. فالكلمة لا تستقل بذاتها في العربية، فيُصبح ناتج تحليل الكلمة مجموعة احتمالات؛ فكلمة “كتب” -مثلاً- تحتمل أن تقرأ: كَتَبَ وكُتِبَ وكَتَّبَ وكُتِّبَ وكُتُبٌ. بل إنَّ الكلمات المشكولة إذا عولجت مستقلة عن سياق النص، فلا يمنع شَكْلُها من إمكانية اشتراكها في الاسمية والفعلية، أو الفعلية والحرفية، فمن أمثلة الحالة الأولى كلمة (أَحْمَدُ) فهي اسم في نحو قولنا: قَرَأَ أَحْمَدُ الصَّحِيْفَةَ. وفعلٌ في نحو قولنا: أَحْمَدُ اللهَ على نِعَمِهِ. ومن أمثلة الحالة الثانية كلمة (لَها)، فهي (فعلٌ) في نحو قولنا: لَها الطِّفْلُ بالْكُرَةِ، و(حرف+ضمير) في نحو قولنا: قِراءَةُ الْقُرآنِ لَها فَضائِلُ كَثِيرَةٌ.

موقع النظام الصرفي للعربية:

تُمَثِّلُ الأنظمة الصرفية بؤرة الاختلاف والتنوع بين اللغات[7]. وقد صُنِّفَتْ اللغات من حيث نُظُمها الصرفية إلى ثلاث فصائل:

1- اللغات العازلة[8]:

“وهي اللغات التي تتخذ أبنية الكلم فيها أوضاعاً ثابتة لا تختلف. وموادها الأصلية وحدات ثابتة تتكوّن عادة من مقطع واحد تُؤلَّفُ وَفْق نظامها النحوي دون المساس بأية مادة أو لفظة من هذه الألفاظ بتغيير إعرابيّ أو صرفيّ أو صوتيّ. ومن أمثلتها اللغة الصينية”[9].

2- اللغات الإلصاقية:

“وهى اللغات التى يقوم فيها توليد كلمات جديدة لدلالات جديدة على إضافة السوابق أو اللواحق، وهو ما يعرف بالاشتقاق اللصقى. والإنجليزية أوضح مثال على هذا النوع من اللغات، على نحو ما نجـد فى الكلمة (Norm) بإضافة بعض اللواحق مثل: (lize – ally – all) :

Norm + al Normal

Norm + ally Normally

Norm + lize Normalize

3- اللغات التصريفية (الاشتقاقية):

يقوم توليد الكلمات الجديدة في هذا النوع من اللغات عن طريق الاشتقاق الصياغي، ونقصد بالاشتقاق الصياغي صياغة بِنْيَات، أو أشكال جديدة تختلف عن بنية الجذر، مع المحافظة على حروف الجذر وعلى نسقها الأصلى، فلا يتقدم حرف ولا يتأخر، وينبغي أن نميز بين هذا النوع من الاشتقاق والاشتقاق اللصقي الذى يعتمد على مجرد إضافات صوتية (سوابق ـ لواحق) إلى الجذر. واللغة العربية تُعد أوضح الأمثلة على اللغات الاشتقاقية، فتشتق من الجذر (ك ت ب) الكلمات التالية: كَتَبَ، كاتِبٌ، مَكْتوبٌ، كِتابٌ… إلخ. فالجذر (ك ت ب) هو أصل المشتقات الأخرى، وإليه تعود دلالات مشتقاته بوجه من الوجوه، وبالتالي يمكن تمييز الكلمات الدخيلة التى لا يمكن إرجاعها إلى جذر من جذور العربية أو إلى إحدى صيغ العربية المعروفة”[10].

ومع ذلك فإنَّ كثيراً من اللغات تجتمع فيها تلك الخصائص الثلاث بمقادير متفاوتة، ولكن واحدة منها تكون هي الغالبة الراجحة؛ فاللغة العربية – مثلاً- لغة اشتقاقية، ومع ذلك نجد فيها أبنية تلزم حالاً واحدة كالأسماء الموصولة وأسماء الإشارة مثلاً.

     ولكن لماذا نحتاج معرفة نسق بناء اللغات الطبيعية عند حوسبتها؟

لا شكَّ أن المعالجة الحاسوبية تعتمد على نسق بناء الكلمة في اللغة؛ إذ لابدَّ لأي معالجة أن تتكئَ على قاعدة بيانات تنطلق منها لِتَتْبَعَ نموذجاً ما في الحوسبة. ففي حال توليد الأفعال (اشتقاق الأفعال) أو تحليلها، تتم المعالجة بالاعتماد على: (قاعدة بيانات الجذور، الصيغ، القواعد الصوتية[11]). أمّا في حال تصريف الأفعال تعتمد المعالجة الحاسوبية على (قاعدة بيانات الجذوع، قائمة باللواصق حسب موقعها، القواعد الصوتية). وتجمع اللغة العربية بين النمطين (الاشتقاق والتصريف) حيث تحكمهما قواعد مطَّردة، لا تخلو من بعض الاستثناءات.

[1] آل طه، هدى سالم عبدالله، النظام الصرفي للعربية في ضوء اللسانيات الحاسوبية-مثلٌ من جمع التكسير، أطروحة قُدِّمَتْ لنيل درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابه، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، كانون الثاني 2005م،ص21.

[2] المرجع السابق، ص21-22.

[3] علي، نبيل، اللغة العربية والحاسوب، ص247.

[4] كان الصرف يمثل أشتاتاً متفرقة ضمن النحو أيام سيبويه وقبله، ومع أنَّ المازني وابن جني قد حاولا تهذيب مسائله وفصلها عن المباحث النحوية ،إلا أنَّ عملهما لم يكن فصلاً حاسماً، إلى أن جاء الزمخشري ففصل بعض المسائل الصرفية عن النحو، وهذا ما فعله أيضا ابن الحاجب وابن مالك.

[5] رضوان، محمد مصطفى، نظرات في اللغة، بنغازي، مطابع دار الحقيقة، الطبعة1، 1976م، ص289.

[6] الموسى، نهاد، العربية نحو توصيف جديد في ضوء اللسانيات الحاسوبية، ص93.

[7] لذلك استبعدت المدرسة التحويلية الصرف عند بلورة نموذج لغوي عالمي مشترك، وارتكزت على التركيب الذي يترجم ما هو مشترك بين اللغات.

[8] العزل هو غياب الاندماج الصوتي بين الكلمات. مثلا في اللغة الصينية الكلمات لا تندمج صوتيا مع بعضها.

[9] السمرة، محمود، والموسى، نهاد، العربية نظام البنية الصرفية، مسقط، وزارة التربية والتعليم، 1985م، ص21-23.

[10] محمد داود، تصنيف اللغات، http://www.mohameddawood.com/

[11] تحكم القواعد الصوتية الهيئة المنطوقة للكلمة، وتنفرد -غالباً- كل لغة بقواعدها الخاصة حسب نظامها.

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى